نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
طبيب الموت النازي: هروب في الظل - اتش دي كورة, اليوم السبت 8 نوفمبر 2025 06:01 مساءً
في معسكر ماوتهاوزن، كان هايم يحقن الضحايا بالسم مباشرة في القلب، أو يجرب عليهم عمليات جراحية بلا تخدير، مراقبا ملامح الألم، فكل دقيقة كانت تجربة علمية. لم يكن يشعر بالذنب، بل كان يعتقد أن هؤلاء البشر "غير صالحين للوجود"، وفق فكره النازي المتطرف الذي يرى في العرق الألماني "النقاء"، وفي الآخرين "الحياة الرخيصة". لقد كان يقتل بدم بارد، بابتسامة هادئة، كما لو كان يقرأ كتابا عاديا، ولا شيء يمكن أن يزعجه.
لكن الحرب انتهت، والعدالة بدأت تبحث عن وجوه مثل وجهه. هنا بدأت مغامرة الهروب: خطوات حذرة بين حطام أوروبا، هوية مزيفة، وثياب مسروقة من أحد الجنود، وجسمه يختبئ في عربات القطار المزدحمة، بين رائحة الغبار والعرق، في كل لحظة يهدده اكتشافه والموت في السجن أو المحاكمة.
ليلة شتاء عاصفة على الحدود السويسرية، كان هايم يقف في الغابة، الثلج يغطي كتفيه، والرياح تلسع وجهه، وضابط الحدود يقترب. قلبه يرقص كطبول الحرب، لكنه بابتسامة شبه عابرة، تكاد تقتل، انحنى خلف شجرة، وخلال لحظة اختفى من عيني الضابط كما لو ابتلعه الظلام نفسه. كل يوم كان مغامرة، وكل ليلة كانت اختبارا للبقاء على قيد الحياة.
بعد سنوات من الترحال بين مخابئ سرية في أوروبا، وصل أخيرا إلى مصر، مختفيا بين الأزقة تحت اسم جديد "طارق حسين فريد". استقر في حي شعبي بالقاهرة، وافتتح عيادة صغيرة، حيث في النهار كان يعالج المرضى، وفي الليل كان يعيش طقوسه الخاصة: يتجول بين الأزقة المظلمة، يراقب المباني، يتجنب أي نظرة فضولية، كأن الماضي يطارده على شكل ظل لا ينكسر.
لكن القاهرة لم تكن هادئة كما اعتقد. في إحدى الليالي، أثناء مرور هايم قرب ميناء المدينة، رأى مجموعة رجال يتحدثون عن الملاحقة والقبض على النازيين الهاربين. قفز قلبه، وكانت كل خلية من جسده مشدودة. استخدم حيله القديمة، اختبأ بين صناديق الشحن، تخفيا عن أعينهم، وكل نفس كان كأنه لعبة مصير بين الموت والحياة.
في منزله، كان الليل أقسى. جلس أمام دفاتره، يكتب أسماء من رحلوا، صرخات لم تنس، ووجوها لم تغادر ذاكرته. كل ورقة كانت بمثابة نافذة إلى الجحيم الذي عاشه، وإلى الجنون الذي حاول أن يدفنه تحت قناع "الخواجة طارق".
لكن المغامرة لم تنته. في رمضان، كان يعلق الفوانيس، يشارك في حلقات الذكر، ويعيش بين الناس، لكن في قلبه كانت حرب جديدة مستمرة، صراع داخلي بين الرغبة في حياة هادئة، وبين هاجس الماضي الذي يطارده كظل طويل، يتسلل إلى كل زاوية من زواياه.
وفي 10 أغسطس 1992، توفي "الخواجة طارق" في صمت منزله بالقاهرة. لم يعرف عنه أحد هويته الحقيقية إلا بعد سنوات، حين اكتشفت الوثائق والحقيبة القديمة، ليعرف العالم أن الرجل الطيب بين الناس كان في الواقع أربيرت هايم، طبيب الموت النازي، الرجل الذي قتل بدم بارد، عاش بفكر نازي متطرف، وهرب بمغامرات مذهلة من أوروبا إلى القاهرة، لكنه لم يستطع الهروب من ظل الأرواح التي طاردته طوال حياته.



0 تعليق