الإنسان المستعار: عن ضياع الذات في عصر الصور المتشابهة - اتش دي كورة

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الإنسان المستعار: عن ضياع الذات في عصر الصور المتشابهة - اتش دي كورة, اليوم الأحد 2 نوفمبر 2025 09:53 مساءً

لم يعد الإنسان كما كان، كائنا يبحث عن جوهره بين صوته الداخلي وصدى العالم، بل صار مرآة لما يلقى عليه كل يوم من صور وأفكار جاهزة. تعاد صياغته ببطء ونعومة، حتى يغدو متشابها مع الآخرين في نبرة الكلام، وطريقة الضحك، وحتى في معنى الفرح والحزن. في زمن يقاس فيه الوجود بعدد المتابعين، ويختزل فيه العمق في سطر جميل على صورة، ضاعت الحدود بين الأصالة والمحاكاة، وصار الفرد يستعير ذاته من شاشة تملي عليه كيف يكون وما الذي ينبغي أن يشعر به.

هكذا تسلل مفهوم «القولبة» إلى النفس دون مقاومة تذكر؛ فكل شيء في الفضاء الرقمي يدعو إلى التشابه: من مقاطع التحفيز التي تكرر الشعارات ذاتها، إلى ملامح الوجوه التي صارت نسخة واحدة بفعل الفلاتر، إلى الشخصيات الافتراضية التي تقاس جاذبيتها بما تملكه من قدرة على التكرار لا الابتكار. بدا وكأن الإنسان المعاصر يعيش في مصنع كبير للصور، يدخل فيه متفردا ويخرج منه مطابقا للمواصفات العامة للسوق.

لم تعد الإعلانات تبيع منتجات فحسب، بل تبيع نمط حياة، وصورة مثالية تفرض على الوعي الجمعي بوصفها النموذج الأجمل. وما كان في الماضي يسمى «ترويجا تجاريا»، أصبح اليوم هندسة شعورية تعيد تشكيل الأذواق والرغبات والضمائر. فالعطر لم يعد رائحة فحسب، بل وعدا بالسعادة، واللباس لم يعد سترا، بل هوية اجتماعية تحدد قيمتك في عيون الآخرين. أما «الإيجابية» التي كانت تعني الصبر والنور الداخلي، فقد تحولت إلى واجب استعراضي دائم، تخفي خلفها هشاشة عميقة لا يجرؤ أحد على الاعتراف بها.

إن أخطر ما في القولبة الحديثة أنها لا تمارس بالقوة، بل بالإغواء. فهي لا تفرض على الإنسان كيف يعيش، بل تجعله يظن أنه يختار. تسوق له الوهم بأنه حر، بينما هي تمسك بخيوط وعيه من حيث لا يشعر. إنها ليست قيدا يفرض على الجسد، بل انسياب بطيء في الفكر والذوق والمعنى. وكلما ظن أنه متفرد في اختياره، كان في الحقيقة يسير في الاتجاه ذاته الذي صمم مسبقا أن يسير فيه الجميع.

لقد نجحت وسائل التواصل في تحويل «الفرد» إلى «منتج»، ثم جعلته يسوق نفسه بنفسه. فكل منشور هو إعلان غير مباشر عن صورة يريدها الآخرون منه، وكل ابتسامة على الشاشة هي جزء من عرض يومي يقدم مقابل القبول الاجتماعي. شيئا فشيئا، لم يعد الإنسان يعبر عن نفسه، بل عن النسخة التي يعتقد أن العالم يفضلها. وحين تتراكم هذه النسخ، تتكون «الهوية الرقمية الجمعية» التي تلغي الفروق وتوحد المشاعر كأنها مقاطع موسيقية متشابهة تعاد بتوزيع مختلف.

وهكذا، صرنا نعيش في زمن صار فيه الاختلاف عبئا، والتشابه أمانا. فالخروج عن السائد يقابل بالنبذ أو بالسخرية، أما الانسياق فيكافأ بالإعجاب والمتابعة. ومع الوقت، لم تعد المشكلة في أن الناس يقلدون بعضهم، بل في أنهم لم يعودوا يدركون أنهم يفعلون ذلك. الوعي نفسه أصبح مبرمجا، والعفوية محكومة بسياق رقمي دقيق يعرف متى تضحك ومتى تتفاعل ومتى تحبط.

لكن، ما الذي يبقى من الإنسان حين يفرغ من خصوصيته؟ حين تتحول العاطفة إلى محتوى، والذاكرة إلى أرشيف للعرض العام، والفرح إلى لقطة قابلة للمشاركة؟ إن القولبة هنا لا تسرق الملامح الخارجية فحسب، بل تمتد إلى الداخل، إلى الطريقة التي نفكر ونحزن ونحب بها. ومع مرور الوقت، يصاب الإنسان بالتيه بين صورتين: صورته الأصلية التي تبهت بصمت، وصورته المصنوعة التي تزداد بريقا على الشاشات.

وربما أخطر ما في هذا التحول أنه جعل الإنسان يعيش حالة إنكار لذاته الحقيقية. لم يعد يثق بما يشعر، لأن ما يشعر به لا يلقى القبول العام. لم يعد يصدق حدسه، لأن المنصات تخبره دائما بما يجب أن يظنه صوابا أو خطأ. حتى الحزن، وهو أصدق انفعالات الوجود، صار يدار بطرق محددة: بفلتر ناعم، وموسيقى حزينة، وجمل مألوفة. كأن الوجع فقد قدرته على أن يكون شخصيا.

إن الخروج من هذا القالب لا يكون برفض العالم الرقمي، ولا بالعودة إلى الماضي، بل بالاستفاقة من الوهم الجمعي الذي يجعلنا نخلط بين «الظهور» و«الوجود». فالفرد الحقيقي لا يقاس بما يرى منه، بل بما يَعرفه عن نفسه حين يغلق الهاتف ويسكت الضجيج. حينها فقط يعاد تشكيل العلاقة بين الداخل والخارج، بين الصورة والحقيقة، ويستعيد الإنسان حقه في أن يكون مختلفا، أن يخطئ ويصمت ويبدأ من جديد دون أن يشرح نفسه للعالم.

في النهاية، لا يمكن القول إن القولبة شر مطلق، فهي قد تنتج نظاما جماليا منسقا، وتسهل التواصل بين البشر. لكن الخطر يبدأ حين تتحول إلى وحدة شكل وذهن تلغي التنوع الفطري للحياة. عندها يفقد الوجود معناه، لأن الجمال لا يولد من التماثل، بل من الفروق الصغيرة التي تعرف كل واحد منا.

فليست البطولة أن نكون نسخا محسنة من بعضنا، بل أن نجرؤ على أن نكون كما نحن، ناقصين قليلا، مختلفين قليلا، ولكن أحياء بحق.

أخبار ذات صلة

0 تعليق