اتش دي كورة

ثقافة الوجاهة في المجتمعات التقليدية - اتش دي كورة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ثقافة الوجاهة في المجتمعات التقليدية - اتش دي كورة, اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 01:45 صباحاً


لا تزال الوجاهة في كثير من البيئات الاجتماعية مقياسا للمكانة، ومؤشرا رمزيا على النفوذ، ووسيلة لتثبيت الذات داخل منظومة العلاقات؛ غير أن هذا المفهوم الذي نشأ في سياق قبلي، كان يوما ما ضرورة لتنظيم البنية الاجتماعية، ثم تحول في العصر الحديث إلى منظومة موازية تنافس منطق العمل المؤسسي، وتربك الوعي المدني الناشئ.

وتنبع الوجاهة في أصلها من الحاجة البشرية إلى الاعتراف، ومن سعي الإنسان الدائم إلى أن يرى ويعترف بوجوده ضمن الجماعة، ففي المجتمعات التقليدية، كانت المكانة تبنى على عناصر الشرف والكرم والقدرة على جمع الناس، أي على ما يرمز إلى القيادة لا على ما يحققها فعلا، ومع مرور الزمن، ترسخت هذه الرموز في الوعي الجمعي حتى غدت معيارا للاستحقاق الاجتماعي، يقدم فيه الشكل على الجوهر، والمظهر على الكفاءة، فالشيخ أو الوجيه ليس من ينجز بقدر ما يمثل حضورا رمزيا يملأ الفراغات المعنوية في الجماعة.

ومع تحول الدولة الحديثة إلى كيان مؤسسي قائم على الكفاءة والأنظمة، لم تتفكك بعد تلك البنى الرمزية القديمة، بل أعادت إنتاج نفسها في صورة جديدة: التنافس على الظهور أمام المسؤول، السباق إلى دعوته واستضافته، واستعراض القرب منه كإشارة إلى الحضور الاجتماعي، هكذا تنتقل الوجاهة من فضائها القبلي إلى فضاء إداري حديث دون أن تغير جوهرها؛ إذ يظل الهدف واحدا، هو تثبيت الذات في الواجهة، ولو على حساب القيمة العملية للحدث.

وتشكل هذه الظاهرة عبئا على الفاعلية المؤسسية، لأنها تستهلك الزمن والموارد في طقوس اجتماعية لا تضيف إلى المنجز شيئا، فالمسؤول حين يتحول إلى محور للولائم والزيارات لا يستطيع أداء مهمته كما يجب، لأنه يصبح أسيرا للتوازنات الاجتماعية التي تفرضها عليه ثقافة المجاملة، وهنا تتجلى المفارقة بين منطق (الوجاهة) ومنطق (الجدوى)، فالأول يبحث عن الصورة، والثاني عن النتيجة.

ومن زاوية سوسيولوجية (اجتماعية)، تمثل الوجاهة شكلا من أشكال (رأس المال الرمزي) الذي تحدث عنه بيير بورديو؛ فهي تمنح صاحبها سلطة اعتبارية تستخدم للتأثير دون موقع رسمي، غير أن المجتمع حين يفرط في هذا النوع من رأس المال، ويغفل رأس المال المعرفي والإنتاجي، يخلق طبقة رمزية تعيد إنتاج التقليدية في ثوب حديث، وتعيق حركة التحول نحو النضج المدني.

ويكشف التحليل النفسي للظاهرة أن وراءها خوفا عميقا من التهميش، فالفرد في المجتمع التقليدي لا يشعر بوجوده إلا بقدر ما يشاهده الآخرون، وهذه الحاجة إلى (المرآة الاجتماعية) تجعل بعض الأفراد يربطون قيمتهم بقدرتهم على الظهور، لا بقدرتهم على العطاء، وحين تغيب المعايير المؤسسية التي تضبط المشهد، يتغول البعد الرمزي على الواقعي، فيتحول حضور المسؤول أو الضيف الكبير إلى مسرح تعرض فيه مكانة الجماعات لا كفاءة الأفراد.

إن معالجة هذه الظاهرة لا تكون بنقدها فقط، بل بفهم جذورها وتحويلها إلى طاقة إيجابية تخدم التنمية، فالمجتمع الذي يدرك أن الوجاهة الحقيقية تقاس بالأثر، لا بالظهور، وبالمسؤول الذي يعمل في صمت، لا الذي يحتفى به في كل مأدبة، هو مجتمع بدأ يقطع المسافة بين الموروث السلبي والوعي، فالكرم يظل قيمة نبيلة حين يكون وسيلة للتقارب، لا أداة للمباهاة، والاحترام يبقى واجبا حين يسهل الإنجاز، لا حين يعطله.

إن الوجاهة التي نحتاجها اليوم ليست تلك التي تزين المشهد الاجتماعي، بل التي ترفع منسوب الوعي الجمعي، وتمنح العمل المؤسسي هيبته واستقلاله، فحين تتراجع ثقافة الصورة أمام ثقافة الفعل، وحين تقاس المكانة بما ينجز لا بما يرى، يمكن للمجتمع أن يتجاوز أسر التقليد الاجتماعي، ويفتح صفحة النضج المطلوب الذي تبنى به الأمم.

أخبار متعلقة :