نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في رحيل الوجيه عبدالله نصيف - اتش دي كورة, اليوم السبت 8 نوفمبر 2025 06:17 مساءً
بعض الناس لا يعرفون بمناصبهم، ولا تقاس قيمتهم بعدد الألقاب التي حملوها؛ بل يعرفون بطريقة حضورهم بين البشر، وبقدرتهم على جعل المسافة قربا، والكلمة بصمة، والموقف شاهدا؛ ومن هؤلاء الناس كان الفقيد عبدالله بن عمر نصيف، حفيد الوجيه محمد نصيف بن حسين بن عمر أفندي نصيف بن عبدالله بن أبوبكر بن محمد نصيف، المنتمي إلى قبيلة «حرب»؛ رحمهم الله جميعا، والذي فارق الدنيا فجر العشرين من ربيع الآخر.
نشأ، رحمه الله، في بيت يعرف قيمة العلم والخلق؛ بيت كان ملتقى للباحثين وطلاب المعرفة، تتجاور فيه المخطوطات مع المروءات، وتلتقي فيه هيبة العلم بكرم الضيافة، وفيه تعلم أن الوجاهة ليست صخبا، وأن العلم يكتمل بالأدب، وأن خدمة الناس باب من أبواب الشكر على النعمة.
لا أنسى صباح الأحد 17 رمضان عام 1425؛ اتصالا منه لإبلاغي باختياري للمشاركة في لقاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني حول «قضايا الشباب.. الواقع والتطلعات»؛ ولم يكن الاتصال مجاملة بروتوكولية، بل طريقة رجل يختارك كما لو أنه يعرفك من زمن؛ يحدد الهدف، وينقل الثقة، ثم ينسحب دون تكلف، ومنذ تلك اللحظة ترسخت لدي حقيقة بسيطة، وهي أن بعض الناس يعرفون بأثرهم في الناس قبل أن تعرف أسماؤهم في السير.
الوجيه عبدالله نصيف لم يكن أسير لقب ولا كرسي، ورغم أنه مر خلال مسيرته بجامعة الملك عبدالعزيز، ورابطة العالم الإسلامي، ومجلس الشورى، في أدوار علمية وقيادية متنوعة؛ إلا أن حضوره الإنساني ظل أسبق من كل لقب؛ حضور قريب من الكل، مع ندرة في مكارم، أجمع عليها معاصروه، من طلاب وزملاء ومسؤولين؛ لم ير إلا مبتسما، ولم يعرف إلا نقي القلب، لطيف المعشر، عفيف اليد، إذا وافقك وافقك بتواضع، وإن خالفك، خالفك بأدب، وإذا لجأ إليه أحد عاد بأمل لا بخيبة، وعندي قصص خاصة تضيق عن ذكرها مساحة المقال.
عرف المرحوم المنابر الدولية؛ صوتا للإسلام الوسطي، وعرف المجتمع وجها مكشوفا لا يحجبه لقب، ومما كان يلفت فيه، إلى جانب دماثته، حصافة هادئة بلا صخب، وإصغاء أكثر من الكلام، ولم تكن هذه لطافة طبع وحسب، بل ثمرة ميزان داخلي عاش به، ومات عليه.. كثيرون يعرفون معالي د. عبدالله في صفحات التكريم والجوائز، لكن من عرفوه عن قرب يعرفون شيئا أعمق، ومن ذلك نزاهة الكسب، والحرص على الحلال، والمروءة حين تطلب منه الشفاعة، ولذلك بدا دائما أخف وقعا من سيرته المكتوبة؛ ولعل أصعب ما في رثاء أمثاله أنك لا تجد ما تضيفه إلى شهادات الناس، بقدر ما تبحث عما ينقيها من مبالغة ومجاملة لرجل أقام ميزانه بين عقل مدرب وقلب رحيم.
اليوم، وقد غاب الجسد وبقي الأثر، لا أحتاج إلى سرد مطول، ويكفيني أن أقول إن رجلا كهذا يذكرنا بأن القيمة في الإنسان قبل العنوان، وأن البلاد تفخر حين يكثر فيها هذا الصنف من أبنائها.. رحم الله العلم عبدالله نصيف، ورفع درجته في عليين، وألحقه بمن أحب من الصالحين، وجعل ما خلفه من علم وخير وحوار وإغاثة صدقة جارية له، وأبقى أثره في القلوب كما أحب أن يكون؛ صادقا، بسيطا، بلا تكلف؛ والعزاء موصول إلى حرمه المصون الفاضلة هند باناجة، وإلى أخويه الكريمين عبدالعزيز ومحمد، وأولاده البررة عمر ومحمد ومحمود، وعائشة وخديجة، وإلى كل من عرفه وأحبه، وانتفع بمروءته وعلمه؛ فإن أمثال هؤلاء لا يفتقدون في البيوت فقط، بل في القلوب أيضا.



0 تعليق