اتش دي كورة

مأسسة القرار الاستراتيجي وتموضع السعودية في الجغرافيا النفطية العالمية: نحو نموذج نظري للجيوبوليتيك الوسيط - اتش دي كورة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مأسسة القرار الاستراتيجي وتموضع السعودية في الجغرافيا النفطية العالمية: نحو نموذج نظري للجيوبوليتيك الوسيط - اتش دي كورة, اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 01:37 صباحاً


يشكل اكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية لحظة تأسيس لبنية سيادية جديدة تجاوزت البعد الاقتصادي إلى إعادة تعريف العلاقة بين المكان والقرار السياسي. فالنفط لم يكن في الوعي السعودي موردا طبيعيا فحسب وإنما علاوة على ذلك أداة لبناء الدولة ومأسسة السيادة وتحديد تموضعها في النظام الدولي. منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود تحول النفط إلى محور لبناء القرار الاستراتيجي وركيزة للتموضع الجيوسياسي الذي جعل المملكة مركزا لإدارة توازنات الطاقة لا مجرد طرف فيها.

ومع اكتشاف النفط في الأربعينيات انتقلت المملكة من دولة فتية في قلب الجزيرة إلى مركز للطاقة العالمية. لم يعد موقعها الجغرافي مجرد امتداد بين الخليج والبحر الأحمر، بل صار نقطة التقاء المصالح بين الشرق والغرب. في هذا التموضع الجديد برزت ثلاث معادلات استراتيجية أساسية: التحكم في الإمدادات بوصفه تحكما في المعادلات الاقتصادية الدولية، الاستقلال في القرار النفطي بوصفه استقلالا في السياسة الخارجية، والنفط كأداة للأمن القومي تحمي المجال الحيوي السعودي وتضمن توازن محيطه الإقليمي.

تطور التفكير الاستراتيجي في إدارة النفط عبر العقود اللاحقة فانتقلت السعودية من مفهوم «إدارة المورد» إلى «إدارة الموقع»، ومن التركيز على عائد النفط إلى التركيز على وظيفته. ومع إطلاق رؤية 2030 أصبح هذا التحول أكثر وضوحا عبر ثلاث مسارات متكاملة: توسيع القاعدة الإنتاجية دون الإضرار باستقرار أسواق الطاقة، تنويع الاقتصاد الوطني لضمان استقلال القرار المالي، وإعادة صياغة موقع المملكة كضابط إيقاع للطاقة العالمية لا كمصدر للنفط الخام فقط.

في هذا السياق لم يعد النفط مجرد مورد اقتصادي بل أداة لهندسة التوازنات الدولية. فمن خلال إدارة تدفقات النفط وسياسات الإنتاج، تمارس السعودية اليوم ما يمكن تسميته «بهندسة التوازنات» وهي وظيفة سيادية تتجاوز الاقتصاد إلى إعادة تشكيل موازين القوى. وقد مكن الموقع الجغرافي والطاقوي المزدوج للمملكة من أن تصبح فاعلا مركزيا في خريطة المصالح الدولية، إذ تحولت جغرافيتها إلى فضاء فاعل تدار فيه معادلات القوة من خلال جيوسياسة الطاقة التي تمثل شكلا حديثا من القوة الهادئة. وعلى خلاف بعض التجارب التي استخدمت النفط كسلاح ضغط، اختارت السعودية توظيفه كأداة استقرار ما منحها مكانة «الضامن» في النظام الدولي للطاقة ورسخ صورتها بوصفها مركزا لإدارة التوازن لا لتفجيره.

إن هذا النهج القائم على «الجيوسياسة الوقائية» مكن المملكة من استباق الأزمات وتجنب الصدمات في الأسواق العالمية، عبر سياسات مدروسة تحافظ على استقرار المنظومة الاقتصادية الدولية. ومن هنا يتكامل مفهوم أمن الطاقة مع ما يمكن تسميته «الأمن الجغرافي» أي حماية المجال الحيوي للدولة بأدوات القوة غير العسكرية. فالنفط في هذا التصور ليس مجرد مورد اقتصادي إنما درع ناعم للسيادة يحمي المجال الوطني من الاختراقات السياسية والاقتصادية، ويمنح المملكة قدرة على المناورة في بيئة دولية متقلبة دون الانجرار إلى الصدامات المباشرة.

وإذا كانت الجيوسياسة الكلاسيكية قد قامت على تصورات ماكندر وسبيكمان وهاوسهوفر التي ربطت النفوذ بالسيطرة على اليابسة أو الهلال الداخلي أو المجال الحيوي، فإن النموذج السعودي قدم صيغة مغايرة قائمة على «التحكم في الشريان الرابط بين القلب والحافة» أي في المسار الذي يصل بين الشرق والغرب وبين الاقتصاد والسياسة وبين الاستقرار والفوضى. فبدلا من منطق السيطرة المادية ينهض النموذج السعودي على «جيوسياسة الوسيط» التي تجعل المملكة مركز عبور وتوازن لا مركز هيمنة.

بهذا المعنى يمكن القول إن التموضع السعودي يجسد جوهر «الجيوبوليتيك الوسيط» القائم على إعادة تعريف العلاقة بين الجغرافيا والطاقة بوصفها أداة لإنتاج المعنى السيادي. فالمملكة لم تتعامل مع النفط كسلعة إنتاج بل كمنظومة رمزية واستراتيجية تمكنها من هندسة التوازن بين الشرق والغرب وإدارة تدفقات القوة عبر الممرات الاقتصادية العالمية. ويتقاطع هذا التصور مع نظرية «الاعتماد المتبادل المعقد» التي طورها روبرت كيوهان وجوزيف ناي، والتي ترى أن القوة الحديثة لا تمارس عبر السيطرة المباشرة، بل من خلال إدارة شبكات الاعتماد المتبادل التي تشكل النسيج الحقيقي للعلاقات الدولية. وبهذا استطاعت السعودية أن تحول موقعها كمنتج مركزي للطاقة إلى مركز توازن فاعل ضمن الاعتماد المتبادل يعيد تعريف مفاهيم القوة والسيادة في زمن الترابط العالمي.

لقد حولت الرياض الاعتماد المتبادل إلى أداة سيادة، ووسعت هامش استقلالها الاستراتيجي من داخل النظام لا من خارجه، على خلاف الافتراض الضمني في أدبيات الاعتماد المتبادل بأن الترابط الاقتصادي يضعف السيادة، تظهر التجربة السعودية أن «الاعتماد غير المتماثل» يمكن أن يعزز هامش المناورة الاستراتيجية. فعندما يكون الطرف الآخر أكثر حاجة لك مما أنت بحاجة إليه، فإن الاعتماد المتبادل لا يقيد سيادتك بل يوسع خياراتك الاستراتيجية. وهذا ما نسميه «المفارقة السعودية» كلما زاد اعتماد العالم على الطاقة السعودية، زادت استقلالية القرار السعودي.

لتؤكد أن السيادة في القرن الحادي والعشرين ليست انغلاقا جغرافيا بل قدرة على التكيف والإدارة الذكية في بيئة مترابطة. وهكذا يلتقي الجيوبوليتيك السعودي مع أطروحة «كيوهان وناي» في تجاوز منطق الهيمنة إلى منطق «التشابك المنظم» حيث تتحول الطاقة من مورد اقتصادي إلى لغة توازن حضاري تصوغ بها الدولة موقعها في النظام الدولي الجديد، وهنا يكمن جوهر النموذج السعودي: فبينما تظهر المملكة حساسية حتمية تجاه تقلبات أسواق الطاقة العالمية، فإنها نجحت في تقليص هشاشتها البنيوية عبر بناء قدرات تكيفية تحول الاعتماد المتبادل من مصدر ضعف إلى أداة نفوذ.

وبالتالي إن عدم التماثل البنيوي في معادلة الاعتماد يمنح السعودية ما يمكن تسميته «رأس المال التفاوضي»: فالاقتصادات الكبرى تعتمد على النفط السعودي أكثر مما تعتمد السعودية على أي سوق منفرد. هنا عدم التماثل يحول الاعتماد المتبادل من قيد محتمل إلى ورقة ضغط استراتيجية، إذ تستطيع المملكة تعديل تدفقاتها النفطية لإعادة توازن الأسواق أو الضغط على شريك محدد، دون أن تعرض استقرارها الاقتصادي للخطر.

لقد طورت السعودية ما يمكن تسميته «استراتيجية التوازن الشبكي» وهي صيغة متقدمة من عدم الانحياز تقوم على بناء علاقات استراتيجية متعددة ومتقاطعة بحيث لا يستطيع أي طرف منفرد ممارسة ضغط حاسم. فمعظم صادرات النفط السعودي تذهب إلى آسيا، وتتصدر الصين قائمة المشترين تليها اليابان والهند ومجموعة من دول شرق آسيا، مع الحفاظ على شراكة أمنية مع واشنطن وتعاون إنتاجي مع موسكو، فإنها تخلق «توازنا بنيويا» يحميها من الابتزاز الاقتصادي أو السياسي من أي اتجاه.

إن جوهر التجربة السعودية يكمن في أن النفط لم يكن غاية اقتصادية بل وسيلة لبناء السيادة وصياغة الدور. فقد أعاد إنتاج المكانة الدولية للمملكة لا من موقع المورد بل من موقع الموازن، وجعل من الجغرافيا النفطية فضاء للنفوذ والسيادة. وبذلك لم تعد المملكة مجرد دولة طاقة بل فاعل حضاري يربط بين الاستقرار العالمي ووظيفتها الاستراتيجية في هندسة توازنات القرن الحادي والعشرين، بما يؤسس لملامح مدرسة سعودية جديدة في الجيوبوليتيك المعاصر.

TurkiGoblan@

أخبار متعلقة :