نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
قطاع الطرق والفضاء الحضري الآمن - اتش دي كورة, اليوم السبت 8 نوفمبر 2025 06:17 مساءً
في مشهد قد يعد عابرا ظاهريا، لكنه يختزن الكثير من الدلالات حول أسس صناعة فراغ حضري آمن في المدن. كنت أسير راجلا مع أبنائي، ممسكا بيد كل منهما، حين توقفت بجانبنا سيارة فتحت نافذتها الأمامية ليبدأ سائقها حديثا متقنا مستخدما فيه جملا وعبارات رنانة مصاغة في سردية محكمة تعبر عن حاجته الماسة للمساعدة المالية. لم يستغرق الموقف أكثر من بضع ثوان، غير أن تفاصيل الحديث كانت محسوبة بعناية فائقة بما في ذلك اختيار المكان، والزمان، وسرعة التفاعل، والمباغتة، ونبرة الصوت التي تجمع بين الاستعطاف والجدية في آن واحد. قبل أن يكمل حديثه انصرفت من المكان، وأثناء سيري كنت أتساءل حول ما إذا كان ذلك عملا عفويا أم ممارسة ممنهجة ومحسوبة بدقة.
تذكرت هذا الموقف حين تكرر المشهد ذاته بأشكال وأنماط مختلفة؛ لأتأكد حينها أنها ممارسات ممنهجة. فما أن تخرج من مجمع تجاري أو صيدلية أو محطة وقود، حتى تفاجأ بأحدهم يتقدم بخطى واثقة ليطلب المساعدة المالية، مستغلا لحظة انشغالك أو انصراف ذهنك عن التفاصيل. يأتيك في وقت تكون فيه متعجلا أو منشغلا بالأبناء، أو الزوجة أو الهاتف أو المشتريات، فيختار اللحظة التي يقتصها بعناية تكون فيها قدرتك على التركيز ضعيفة، فيستثمرها بكل قوة ليضعك أمام سؤال إنساني مستخدما فيه مبادئ البرمجة العصبية، واللغة الحسية، والمهارات الإدراكية. إنها لحظة مباغتة محسوبة، تذكرنا بأساليب قطاع الطرق الذين ينتهزون الفرصة الحاسمة والمكان المناسب؛ لكن هذه المرة بأسلوب أكثر حداثة. لقد تبدلت الأدوات وتغيرت الوجوه، لكن الجوهر بقي ذاته والهدف في نهاية المطاف هو الاستيلاء على حق الغير بالقوة الناعمة وغير مباشرة. فبينما كان قطاع الطرق في الماضي يقطعون الطرق بالعنف والسلاح، نجد اليوم من يقطع طريقك النفسي والعاطفي وخلوتك مع ذاته أو عائلتك بلغة مهذبة ونبرة استعطاف وتأثير سلوكي. ولا أجدني مبالغا بوصف هؤلاء بقطاع الطرق، فالممارسة ذاتها هي اقتطاع للانتباه والقرار، والمال.
إن هذه الممارسات تجعلنا كمتخصصين في مجال تخطيط المدن نعيد التفكير مليا في مفهوم صناعة «الفضاء الحضري الآمن» داخل المدن. فالأمن في المدينة لا يقاس بقدرتها على حماية الإنسان جسديا؛ بل بصناعة فراغ حضري قادر على خلق تفاعل إيجابي مع المجتمع يوفر الراحة العاطفية والطمأنينة الوجدانية. وهكذا فالتواصل المزعج، والتسول بأساليبه المباشرة أو المبطنة يحولان الفراغ الحضري إلى «مسرح استغلال» ويضعفان فاعليته الاجتماعية والإنسانية ويجعلانه مكانا غير مرغوب. كل ذلك يؤدي إلى انعدام الثقة بين الناس، وهجرة الفضاءات العامة، حيث يصبح أي اقتراب غير متوقع موضع شك، وكل طلب إنساني محل تردد. وهكذا، يفرغ الفضاء الحضري من معناه الاجتماعي ويستبدل بعلاقات حذرة ومتحفظة، يخشى فيها الإنسان أن يكون ضحية استغلال.
وحتى لا يختلط الإحسان بالإيهام، سعت الحكومة الرشيدة إلى تنظيم قنوات العطاء والمساعدة من خلال منصات الكترونية رسمية تخضع لإشراف مالي ورقابي دقيق، مبنية على مبادرات موثوقة. هذه المنصات تمثل نموذجا رائدا لتوجيه العمل الخيري نحو مساره الصحيح، وتخضع للرقابة المالية، وتغلق الباب أمام الاستغلال والممارسات المالية المشبوهة والتي تسيء إلى القيم الإنسانية وتشوه مفهوم التكافل.
ختاما، صناعة الفضاء الحضري الآمن لا تتحقق بوجود الأنظمة وحدها؛ بل بتعزيز الوعي المجتمعي لمنع «قطاع الطرق» من استخدام أساليب الاستغلال والابتزاز المقنعة والتي تتسلل إلينا عبر منافذ العاطفة.
أخبار متعلقة :