اتش دي كورة

إسرائيل: الاستعمار الاستيطاني كأزمة بنيوية دائمة - اتش دي كورة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
إسرائيل: الاستعمار الاستيطاني كأزمة بنيوية دائمة - اتش دي كورة, اليوم الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 10:41 مساءً

لفهم السلوك الإسرائيلي لا يكفي تحليل السياسات المتغيرة أو قرارات الحكومات المتعاقبة أو الحالية، بل يجب العودة إلى طبائع التكوين الأولى: تلك البنية التأسيسية الأيديولوجية والمؤسسية والنفسية التي شكلت المشروع الصهيوني منذ لحظة نشأته، وما زالت تحكم سلوكه حتى اليوم. هذا المفهوم يكتسب عمقا أكبر حين نقرأه في ضوء نظريات «الاستعمار الاستيطاني» كما صاغها (باتريك وولف _ ولورنزو فيراتشيني) اللذان أوضحا أن الاستعمار الاستيطاني ليس حدثا تاريخيا منتهيا، بل بنية مستمرة هدفها ليس استغلال السكان الأصليين، بل إزالتهم واستبدالهم.

من هذا المنطلق يمكن فهم التكوين الإسرائيلي بوصفه نتاج أربع طبائع متداخلة. أولها البعد الإيديولوجي: حيث تم توظيف السردية الدينية-الأسطورية «أرض الميعاد» و«الشعب المختار» كأداة استعمارية لتبرير الاستيلاء على فلسطين. لم تكن الصهيونية انبعاثا دينيا بقدر ما كانت علمنة سياسية للخطاب التوراتي خدمة للاستيطان، نتج عنها ذهنية استثنائية لا ترى الفلسطيني إلا كعائق ينبغي إزالته، وتبرر العنصرية البنيوية تجاه الآخر، أما البعد الأمني: فيشكل جوهر الهوية الإسرائيلية إذ لم يعد الأمن وسيلة للحماية، بل أصبح أساس الوجود الجماعي ذاته. فالمجتمع الإسرائيلي جرى عسكرته بالكامل، وتحولت مؤسساته التعليمية والاقتصادية والإعلامية إلى أدوات في العقيدة الأمنية الشاملة، (هذا ليس جديدا، أدركت ذلك من خلال قراءتي المتعمقة في التاريخ اليهودي بعد السبي البابلي الثاني: ففي التلمود يمكن تنظيم الشعب اليهودي وتجهيزه كتنظيم عسكري وسياسي وظيفي) بحيث صار «التهديد الخارجي» ليس خطرا بل شرط لاستمرار التماسك الداخلي. وكلما اقتربت إسرائيل من السلام واجهت أزمة هوية تدفعها بنيويا نحو التصعيد.

ويأتي البعد الوظيفي: ليكشف أن إسرائيل لم تكن مجرد أداة غربية بل فاعل استراتيجي ضمن منظومة إمبريالية أوسع. فقد تحول دورها عبر المراحل: من ذراع للاستعمار البريطاني إلى حليف في الحرب الباردة، وحاولت أن تسوق لنفسها أنها تحارب الإرهاب غير أن الواقع يقول إنها الإرهاب نفسه، وفي كل الأحوال ظلت مرتبطة في جوهرها بالدعم الغربي الذي يمثل شريان بقائها المادي والسياسي. فدون المساعدات الأمريكية والحماية الدبلوماسية في المؤسسات الدولية يفقد المشروع الصهيوني جدواه التاريخية. أما البعد الانقسامي: فيعكس التناقضات الداخلية العميقة التي تمزق البنية الاجتماعية الإسرائيلية. فالتعدد الإثني والديني: بين الأشكناز والمزراحيم والروس والإثيوبيين، وبين العلمانيين والمتدينين القوميين والحريديم، خلق صراعات متصاعدة لم يعد مشروع «الصهر القومي» قادرا على احتوائها. صعود اليمين الديني الفاشي ورفض الحريديم للخدمة العسكرية، والأزمة حول «الانقلاب القضائي» عام 2023 كلها مظاهر لتآكل الإجماع الداخلي. هذا القلق البنيوي يترجم خارجيا في صورة عدوان متكرر يهدف إلى إعادة إنتاج الوحدة الداخلية عبر الخطر الخارجي.

في ضوء نظرية وولف: يتضح أن كل هذه الطبائع تخدم هدفا واحدا هو «منطق الإزالة» الذي يمثل الآلية العميقة للمشروع الصهيوني: إزالة السكان الأصليين واستبدالهم، ويتخذ هذا المنطق أشكالا متعددة منها الإزالة الجسدية عبر المجازر والحروب والإبادة كما في غزة، والإزالة القانونية عبر سن القوانين العنصرية مثل قانون العودة وقانون القومية، والإزالة المكانية من خلال التهجير وبناء الجدار الفاصل وتحويل الضفة الغربية إلى جزر معزولة، وأخيرا الإزالة الثقافية عبر تهويد الأسماء وسرقة التراث وتزوير التاريخ. ومع ذلك فإن هذه الإزالة لم تكتمل ولن تكتمل، لأن المقاومة الفلسطينية المتجددة والصمود الديموغرافي وحق العودة كفكرة حية، جميعها تبقي المشروع الاستيطاني محاصرا ببنيته نفسها.

وقد كشفت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 عن هذه البنية على نحو غير مسبوق. لم تكن مجرد هجوم عسكري، بل صدمة بنيوية ضربت جميع طبائع التكوين الإسرائيلي في عمقها. انهارت أسطورة «الجيش الذي لا يقهر» (وهنا لا يعني ذلك أنني مع خيار المقاومة المتهور دون دراسة الظروف الأمنية والسياسية الداخلية والإقليمية والدولية) وتعرت الوحشية الإسرائيلية أمام العالم وتوترت العلاقة - ولو بشكل محدود - مع الراعي الأمريكي وظهرت أزمة ثقة داخلية غير مسبوقة. جاء الرد الإسرائيلي عبر الإبادة الجماعية في غزة كتعبير عن مأزق بنيوي: فعندما يفشل منطق الإزالة الناعم (الحصار والإدارة) يتصاعد إلى الإزالة الصلبة (الإبادة)، إلا أن هذا التصعيد لا يقدم حلا بل يعمق الأزمة الوجودية للكيان.

إسرائيل اليوم تواجه تناقضات مستعصية تهدد بنيتها من الداخل. فهي لا تستطيع أن تكون «يهودية وديمقراطية» في الوقت نفسه على كامل أرض فلسطين، فإما الإبادة الكاملة المستحيلة في القرن الحادي والعشرين، أو التهجير الشامل المرفوض دوليا، أو استمرار «الأبرتهايد» القائم الذي يقترب من نهايته، أو القبول بالدولة الواحدة الديمقراطية التي تعني نهاية المشروع الصهيوني ذاته. يضاف إلى ذلك القنبلة الديموغرافية إذ يتقارب عدد الفلسطينيين واليهود ومع حلول عام 2030 المتوقع سيصبح اليهود أقلية. كل محاولات إسرائيل للفصل والحصار فشلت في كسر هذه المعادلة لأن الصمود الفلسطيني تحول إلى مقاومة مستمرة.

وفي الداخل: يتعمق الانقسام بين التيار الديني المتطرف والعلمانيين حتى بات خطر الانزلاق نحو ثيوقراطية يهدد الاقتصاد والمجتمع. المؤشرات واضحة: مئات الآلاف من الإسرائيليين يحملون جوازات أجنبية تحسبا للهجرة والنخب الاقتصادية تفكر بالخروج. أما على المستوى الدولي فشرعية إسرائيل تتآكل بسرعة غير مسبوقة، الإبادة في غزة وتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية واتساع حركة المقاطعة وتراجع التأييد الشعبي لها في الغرب جميعها تضعها في عزلة متصاعدة. وعندما يفقد المشروع الاستيطاني شرعيته الدولية يبدأ بالانهيار من الداخل كما حدث في جنوب أفريقيا.

هكذا يمكن القول إن إسرائيل ليست دولة طبيعية تواجه أزمة عابرة بل مشروع استعماري استيطاني يعيش أزمة بنيوية دائمة. طبائع تكوينه (الأسطورة الأيديولوجية، الأمننة الشاملة، الوظيفة الإمبريالية، والانقسام الداخلي) تدفعه نحو العنف والتصعيد المستمر، بينما «منطق الإزالة» الذي يحكمه يصطدم بحقيقة صلبة: الفلسطينيون باقون وإسرائيل لا تستطيع إكمال مشروع الإزالة، ولا يمكنها في الوقت ذاته أن تتحول إلى دولة طبيعية تعترف بجذور الظلم التأسيسي وحق العودة. وهكذا تبقى محكومة بمعادلة قاسية: تصعيد دائم وتآكل تدريجي.

الدرس الأعمق أن البقاء على الأرض وتجديد المقاومة عبر الأجيال (وفق استراتيجية مدروسة)، وتعميق تناقضات الكيان من داخله وفضح منطق الإزالة أمام العالم، هي أدوات الانتصار في مواجهة الاستعمار الاستيطاني. فالتاريخ يؤكد أن أي مشروع استيطاني واجه مقاومة مستمرة انتهى إلى الزوال. فلسطين ليست استثناء بل الاستثناء الحقيقي هو إسرائيل، الكيان الاستيطاني الوحيد الذي ما زال يحاول إكمال مشروعه في القرن الحادي والعشرين في عالم لم يعد يقبل بمثل هذه البنى العنصرية. العودة حق والتحرير قادم، لا لأن الأخلاق تنتصر دائما بل لأن البنية الاستعمارية نفسها تحمل بذور انهيارها في داخلها.

أخبار متعلقة :