اتش دي كورة

فكرة المنجَز... قراءة في حالة النضج المؤسسي - اتش دي كورة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فكرة المنجَز... قراءة في حالة النضج المؤسسي - اتش دي كورة, اليوم الأحد 2 نوفمبر 2025 09:53 مساءً

من أكثر المفاهيم التي أسيء فهمها داخل مؤسساتنا مفهوم المنجز، فالكثير من القيادات والموظفين يخلطون بين (العمل الروتيني المنفذ) و(المنجز الحقيقي)، وبين (الحركة اليومية) و(الأثر الفعلي)، ويكتب في التقارير أن الإدارة عقدت عشرات الاجتماعات أو نظمت عددا من البرامج أو أصدرت خطابات كثيرة، ثم يقدم ذلك بوصفه إنجازا، لكن هذه الممارسات، في حقيقتها لا تعد منجزات، بل واجبات تشغيلية هي الحد الأدنى من أداء المؤسسة.

والمنجز الحقيقي هو ما يترك أثرا ملموسا وقيمة مضافة تتجاوز المهمة ذاتها، فعندما تؤدي المؤسسة عملا يغير في أسلوبها، أو يرفع كفاءة فريقها، أو يحسن الخدمة المقدمة، عندها فقط يمكن أن تتحدث عن إنجاز، فالمنجز ليس ما تفعله، بل ما يتغير بسبب ما فعلته، ولهذا السبب، تقاس المؤسسات الناضجة بما أحدثته من تطور، لا بما نفذته من أنشطة.

إن المشكلة عند بعض القيادات الإدارية أنهم ما زالوا أسرى للفكر التقليدي الذي يرى في (الكم) معيارا للنجاح، مثل عدد الاجتماعات، والمشاركات، والمخاطبات، والتقارير، بينما الفكر الإداري الحديث يقوم على مبدأ الأثر والنتيجة، بمعنى ما الذي تغير في الأداء؟ ما الجديد في طريقة العمل؟ وما الأثر الذي شعر به المستفيد أو الموظف؟ هذه الأسئلة البسيطة تكشف حجم الفجوة بين المؤسسات التي تعمل شكليا لتنجز، وتلك التي تعمل لتتطور فعليا.

والنضج المؤسسي لا يعني أن المؤسسة تملك نظاما من اللوائح والتعليمات، بل أن يكون لديها وعي بالغاية من وجودها، فالمؤسسة الناضجة تراجع نفسها بانتظام، وتتعلم من أخطائها، وتحول التجارب إلى معرفة جديدة، أما المؤسسة التي تكرر ما فعلته في العام الماضي، وتحتفي بالنتائج ذاتها كل عام، فهي في حالة (ركود منظم) مهما كانت أوراقها مرتبة.

إن كثيرا من المسؤولين يظنون أن دورهم أن (يديروا الوقت)، بينما المطلوب أن يديروا الاتجاه إلى الغاية، فالقيادة ليست ضبط الإيقاع اليومي، بل ضمان أن تتحرك المؤسسة في المسار الصحيح نحو هدف واضح له قيمة، لهذا نجد فرقا كبيرا بين قائد يحافظ على النظام اليومي، وآخر يصنع منهجا جديدا في التفكير، فالأول ينجز مهامه، والثاني ينضج مؤسسته.

ويرتبط المنجز أيضا بالأمانة الفكرية، فالمؤسسة التي ترفع منجزات شكلية، أو تنسب الجهود الفردية إلى الإدارات، تربي ثقافة غير ناضجة تشجع على (تجميل الواقع) بدلا من تطويره، ولذلك فإن النضج المؤسسي يبدأ من الصدق الداخلي، من الاعتراف بما لم ينجز بقدر ما يحتفى بما تحقق فعلا، لأن الوضوح في القياس هو ما يصنع الثقة، والثقة هي نواة التطوير.

والمطلوب اليوم من قياداتنا أن يعيدوا تعريف الإنجاز داخل فرقهم، لا بد أن يفهم بأنه تحول في طريقة العمل لا مجرد إنجاز لمهمة، وأن النضج المؤسسي لا يتحقق بوجود لوائح صارمة، بل بوجود عقول تتساءل وتتعلم وتغير، فعندما تصبح المؤسسة قادرة على تطوير نفسها دون انتظار توجيه خارجي، تكون قد بلغت مرحلة النضج.

إن مراجعة فكرة المنجز داخل مؤسساتنا لم تعد خيارا تنظيميا بل ضرورة إدارية، فالتعامل مع العمل بوصفه (منجزا) لمجرد تنفيذه، يكرس حالة الجمود ويضعف ثقافة التطوير، والمطلوب هو أن تتحول المؤسسات إلى بيئات تتعلم من تجاربها، وتقيس أثر ما تنفذه بموضوعية، وتربط الإنجاز بقدرته على تحسين الأداء العام وخدمة المستفيد، وعندما يصبح معيار التقييم هو الأثر الفعلي لا النشاط الشكلي، نكون قد اقتربنا من حالة النضج المؤسسي التي تسهم في رفع كفاءة العمل وتجويد نتائجه واستدامته.

أخبار متعلقة :