تحطيم أصنام المجالس - اتش دي كورة

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تحطيم أصنام المجالس - اتش دي كورة, اليوم الاثنين 3 نوفمبر 2025 09:53 مساءً

في الماضي القريب، كان المجتمع يتشكل وفق ترتيب وتقدير اجتماعيين واضحين تحكمهما المعرفة والدراسة والكلمة والخبرة العملية.

فكانت الجلسات تدار وفق أدوار شبه معلنة، الطبيب له مكانته الطبية والصحية، والمهندس يسأل عن الطرق والإنشاءات والبناء والتخطيط العمراني، والمعلم يستفتى في قضايا التربية والتعليم، وحتى الحرفيون يقدرون بما يملكون من أسرار مهنتهم وخبراتهم العملية، وكان المزارع المتمرس يتحدث ولا يقاطعه أحد.

التنوع المعرفي سابقا يعتبر مصدرا لثراء المجتمع، فكانت المكانة الاجتماعية تبنى على ما يملك الشخص من علم وتجربة، وما يستطيع أن يقدمه للآخرين من فائدة.

واليوم، مشاهد المجالس تغيرت بصور جذرية مع انفجار التكنولوجيا الحديثة وتقدم أدوات المعرفة، فلم تعد الكراسي تتمركز حول كرسي الخبير، ولم يعد الناس ينتظرون الحكمة من أفواه المتخصصين، بل أصبحت الهواتف المحمولة والذكاء الاصطناعي ومواقع الدردشة قادرة على إبراز أي فرد، مهما كان عمره أو مستوى تعليمه، بتأكيد معلومات محدثة خلال ثوان معدودة.

وحتى في قضايا الدين، والتي كانت من نصيب أهل الفتوى، باتت متاحة بضغطة زر وبكامل مراجعها لمن يود الإفتاء.

وهكذا سقطت تيجان المعرفة على أرض المعلومة المتاحة، ولم يعد صاحب التخصص متفردا بالكلام في المجالس، خشية أن يتعرض لتحدي مراهق لم يكمل دراسته، مستندا في اعتراضه على مصدر رقمي أو مقال محدث، ربما لم يطلع عليه الخبير!

هذا التحول حطم كثيرا من «الأصنام الاجتماعية»، من متصدرين ومن مدعين، ولمعلومات مخزنة، ما بدد كثيرا من دواعي التبجيل، التي كانت تحدد مقاعد المجالس، فأصبح الكل أندادا.

في مجالس اليوم لم يعد أحد يجرؤ أن يطرح معلومة بثقة مطلقة دون ترك مجال للخطأ، فالتصحيح الفوري قد يحرجه أو ينسف طموح سلطته المعرفية.

بذلك تغير الجوهر الاجتماعي، حيث صار النقاش أكثر مساواة، وأقل خضوعا للتراتبية القديمة.

وكل ذلك يظل مفيدا بنشر ديمقراطية المعرفة، والتحفيز وتسريع التعلم، عبر قدرة البحث الفوري وفتح آفاق تبادل الأفكار والتوسع في الفهم، وتمكين كسر احتكار الخبرة الناقصة، بتسهيل اختبار المعلومات ومراجعتها وتوطينها من أكثر من مصدر على التو.

لكنه يفسد الجلسات العائلية والاجتماعية بتحفيز النقد، وازدياد درجات التحدي والمساءلة، ما يجعل الناس أكثر وعيا بضرورة التحقق، وتقليل الانقياد لسلطة اللسان المطلقة للخبير.

كل ذاك ساعد على تآكل مكانة الخبراء، و«هيبة التخصص» وبالذات لمن لا يحدثون معلوماتهم، وبالتالي قد يقود إلى الاستهانة بالعلم والخلط بين المعلومة السطحية والرأي العابر.

وربما يسبب ذلك انتشار المعلومات المضللة: وتحطيم الحقائق بالشائعات، وبما قد يصعب حتى على المختصين التمييز فيها.

وبالتالي فقد يؤدي إلى فقدان العمق، وإضعاف الحوار التقليدي، وتقليص رغبة المختصين في مشاركة خبراتهم الحقيقية في المجتمعات.

ومن المؤكد أن هذا التغيير الاجتماعي لا عودة فيه، فالأجوبة اليوم متدفقة، والذكاء الاصطناعي سيتضاعف أثره على حياتنا، والمستقبل مرشح لفوضى المساواة، واختلال ترتيب الأدوار الاجتماعية.

المطلوب أن نتعلم كيفية إدارة هذا الكم الهائل من المعلومات، وأن نحترم أهل الخبرة والتخصص، ليس كالأصنام، ولكن بحرصهم على عدم التبرع بالمعلومة دون حاجة، وتمييز «الموثوق» من «الزائف»، و»السطحي» من «المتعمق»، لمصلحة الوعي الاجتماعي والمعرفة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق