أنا عمراني والمظلة الفضفاضة - اتش دي كورة

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أنا عمراني والمظلة الفضفاضة - اتش دي كورة, اليوم السبت 1 نوفمبر 2025 10:50 مساءً

في أحد المؤتمرات العلمية التقيت بأحد المشاركين الذي قدم نفسه قائلا إنه «متخصص عمراني». وحين سألته عن تخصصه الدقيق، لم يفصح واكتفى بقوله «أنا عمراني». فقلت له: عفوا لم أفهم ماذا تقصد بالعمراني؟ فالعمران حقل متعدد التيارات ولا يمكنك السباحة في جميع التيارات، فهل لي أن أعرف مجالك العمراني أو انتمائك المهني؟ إن كلمة عمراني إذا أطلقت وحدها دون تفسير قد تسبب لبسا؛ لأن العمران يشمل مجالات مرتبطة بالمدن والتصميم وتشييد البيئة المبنية وتنميتها، فعندما نتناول قضية عمرانية دون تحديد قد يفهمها المعماري على أنها قضية في التصميم المعماري، في حين قد يفهمها المخطط على أنها قضية في التخطيط العمراني. ورغم شيوع هذا المصطلح في بعض الأوساط؛ إلا أنه يثير تساؤلات جوهرية حول حدود «العمراني» إن جاز التعبير؛ بل وتكشف عن إشكالية متنامية في الخطاب المهني تتعلق بتمييع الهوية التخصصية في مجالات العمارة، والتخطيط العمراني، والتصميم العمراني وعمارة البيئة.

إن استخدام مصطلح فضفاض كـ«عمراني» يبدو في ظاهره شاملا وجاذبا، لكنه في حقيقته مطاطي لا يفصح عن مضمون علمي أو انتماء مهني لمجال محدد. فالعمران مفهوم واسع يضم تحت مظلته منظومة من التخصصات الدقيقة، لكل منها أدواته المنهجية، ومجالاته التطبيقية، ومسؤولياته المهنية. فالمعماري يختلف كليا في تكوينه ومهامه عن المخطط العمراني، كما يختلف كلاهما عن مصمم الفراغات العامة أو المتخصص في عمارة البيئة. صحيح أن هذه التخصصات تتكامل فيما بينها؛ ولكن لكل تخصص رؤيته ومقاربته التي لا يمكن أن تختزل أو تدمج في توصيف عام.

إن وضوح الهوية التخصصية ليس ترفا أكاديميا ولا شكلا من أشكال النخبوية؛ بل هو شرط أساسي لضمان جودة المخرجات العمرانية وتكاملها. وعليه فإن الاكتفاء بلقب «عمراني» قد يوهم المتلقي بأن صاحبه يمتلك قدرة «خارقة» على ممارسة جميع التخصصات المتصلة بالعمران، وهو تصور غير دقيق؛ بل ومضلل أحيانا. فلا أتصور أن شخصا سوف يكون قادرا على ممارسة جميع المهن العمرانية بالقدر نفسه من الجودة والكفاءة. إن الممارسة المهنية الرصينة في العمران تقوم على أسس علمية ومهارات متراكمة في مجال محدد، وتؤكد على الدراسة واستمرارية التخصص الدقيق وبشكل غير مستند على مجرد انطباعات أو اهتمامات متفرقة أو قراءات عامة من هنا وهناك. وهكذا فإن تمييع المجال العمراني بلفظ «عمراني» يسهم في طمس الفوارق بين التخصصات، ويضعف من قيمة الجهود الأكاديمية الرامية لترسيخ هوية محددة لكل مجال تخصصي.

في الحقيقة، هذا المصطلح يساوي بين الجميع في بوتقة واحدة، في حين أن التمايز أمر حتمي هو ما يمنح المنظومة العمرانية قوتها وتكاملها، فالعمران الناجح لا يتحقق بتذويب الفروق؛ بل بتكامل الأدوار.

أرى أننا بحاجة إلى تفعيل دور الجمعيات المهنية التي تضع مسارات واضحة وتحفظ حقوق المنتسبين لكل تخصص سواء في التعليم أو الممارسة المهنية أو حتى في الخطاب الإعلامي. فكما لا يجوز الخلط بين الهندسة الكهربائية، والميكانيكية لمجرد انتمائهما للحقل الهندسي، لا ينبغي أيضا أن نسقط كلمة «عمراني» لتكون مظلة فضفاضة تشمل الجميع وتضعهم في قالب واحد. إن هذا التخصيص يساعد صانعي القرار على تحديد الاحتياجات النوعية والكمية بناء على التخصص المطلوب.

ختاما، ما زلت أتواصل وأحاول مع هذا الزميل ليخبرني عن تخصصه العمراني الدقيق؛ ولكنه ازداد إصرارا وأصبح يردد دوما عبارة «أنا عمراني.. أنا عمراني».

أخبار ذات صلة

0 تعليق